فصل: القسم الأول: المفارقة قبل التقابض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.القسم الأول: المفارقة قبل التقابض:

فإن بعدت اختياراً أبطلت، وهذا هو الحكم في طول المجلس وإن لم يفترقا كما تقدم. وإن قربت فالمشهور الإبطال أيضاً، والتصحيح في كتاب محمد.
وإن كانت غلبة فقولان: الإبطال والتصحيح، وهما على الخلاف في التناجز، هل هو ركن في عقد الصرف فيبطل مع التراخي كيفما تصور، أو هو شرط فلا يبطل مع الغلبة؟.
التفريع: إن قلنا بالتصحيح في غلبتهما فأحرى به في غلبة أحدهما. لأنه قد يقصد إبطال الصرف فيقابل بنقيض قصده وإن أبطلتا فقولان. والتصحيح في الصورتين هو اختيار القاضي أبي بكر.
مسائل ثلاث:
إحداهما: أن يعقد على جملة فيجد بعضها. فإن كان الموجود الأكثر فظاهر الكتاب إبطال الجميع، وقاله محمد وأصبغ.
وحكى محمد عن ابن القاسم أنه قال: ينتقض ما يقابل المتأخر خاصة. ونزل بعض المتأخرين الخلاف على أن التناجز شرط فيبطل ما فقد فيه خاصة، أو هو ركن فإذا فقد بطل العقد جملة. وإن كان الموجود الأقل أو النصف، فقولان أيضاً:
أحدهما: النقض للكل، وسواء رضي الثاني بما وجد وتأخر الباقي أو لم يرض. وهو مذهب الكتاب.
وقاله محمد وأصبغ كما قدمنا.
والثاني: أن النقص بين المتعاقدين. فإن رضي أحدهما بما أخرجه الثاني من البعض وإتباع الباقي انتقض صرف المتأخر. وإن لم يرض انتقض صرف الجميع.
المسألة الثانية: أن يدخلا من الأول على قبض البعض دون البعض. فأما ما يقبض فلا شك في نقضه.
وأما المقبوض فيجري على القولين في الصفقة إذا جمعت حلالاً وحراماً، والمشهور نقضها، والشاذ إمضاء الحلال.
ومثار الخلاف: النظر إلى اتحاد العقد أو إلى اختلاف حكم المعقود عليه.
المسألة الثالثة: أن يدخلا على قبض الجميع ثم يؤخران شيئاً. فإن آخرا الجل أو ماله قدر بطل الجميع على المشهور. وإن آخرا الأقل فقولان: الصحة والفساد.
وقال أصبغ: لو عجز الصرف حبة فأخره بها انتقض الصرف كله.
فرع:
لو صارفه بشيء ثم أودعه عنده بعد القبض، فإن كان مما يعرف بعينه كالمصبوغ، أو كان مطبوعاً عليه، ولو كان مما لا يعرف بعينه صح الصرف. وإن كان مما لا يعرف بعينه غير مطبوع عليه فيفسد الصرف نظراً إلى حماية الذرائع.

.القسم الثاني: في وجود النقص:

وهو نوعان: نقص في المقدار، ونقض في الصفة.
أما النوع الأول: وهو النقص في المقدار. فإن قام به بطل الصرف على المنصوص. وقد تقدم الخلاف إذا قبض البعض دون البعض، فيجري عليه. وإن لم يقم به ورضيه، فإن كان كثيراً فقولان: النقض والصحة، ويتخرجان على ما تقدم. وإن كان يسيراً فقولان مرويان.
والمنع مأخوذ مما تقدم. والنظر إلى اليسارة إعطاء لها حكم التبعية. والمشهور أن الأتباع لا تراعى. وإن جمعت قلت: ثلاثة أقوال: الصحة مطلقاً. والإبطال مطلقاً. والتفرقة: فإن كان النقص يسيراً صح، وإن كان كثيراً بطل.
فرع:
وكم مقدار اليسير؟
أما إن كان الصرف في دينار واحد فقولان: أحدهما أنه الدانق والثاني: أنه النقص الذي تختلف فيه الموازين.
وإن كان الصرف في أكثر من دينار أو النقص في الدراهم، فقالوا: هو أن تنقص المائة درهماً، وهذه شهادة باليسارة ما هي.
فرع مرتب عليه: وهو: إذا قلنا بالنقض، فقال مالك وابن القاسم: ينتقض صرف دينار واحد.
وقال ابن القاسم أيضاً في العتبية: ينتقض الجميع. وقيل: ينتقض ما قابل النقص خاصة.
وقال الشيخ أبو القاسم: إن كان سمى لكل دينار منها ثمناً انتقض صرف دينار واحد أو دينارين إن زاد النقص على دينار.
وإن لم يسم لكل دينار منها ثمناً انتقض الصرف كله. وبهذا قال القاضي أبو إسحاق وابن أبي زمنين، ومن المتأخرين القاضي أبو الوليد وأبو القاسم بن محرز.
قال بعض المتأخرين: فأعروا التسمية من الخلاف، وأجروه في الإجمال.
هذا إذا وجد النقص بعد المفارقة أو الطول، فإن وجد بالحضرة، فإن رضي بالنقص تم الصرف، وإن لم يرض ولكن أتم ناجزاً تم أيضاً. وإن اتفقا على التمام وافترقا قبل قبضه فقال أصبغ: ينتقض الصرف كله.
وقال ابن القاسم: ينتقض صرف دينار خاصة.
وأما النوع الثاني، وهو النقص في الصفة، فهو أن يجد ما يرد لعينه، ولا يخلو من أن يكون مما ليس فيه من النقدين شيء كنحاس ورصاص وشبههما، أو يكون مغشوشاً.
فأما الأول فاختلف المتأخرون في إلحاقه بالمغشوش أو بالنقص في المقدار على قولين.
وأما المغشوش فإن رضي واحده به صح الصرف. وإن رده فهل يجوز البدل أو ينتقض الصرف؟ قولان: المشهور: النقض.
وقال ابن وهب وجماعة من المتقدمين بجواز البدل.
ومثار الخلاف: الاختلاف في الرد بالعيب، هل هو نقض العقد من أصله فينتقض، أو نقض له عند القيام فيصح البدل؟
فروع: إذا قلنا بالنقض، فهل يختص بغير المعين؟ وأما المعين فيجوز فيه البدل بلا خلاف، أو يجري في المعين وغيره؟ قولان.
والأول: رأى أبي الحسن اللخمي، وأصله لأبي بكر بن عبد الرحمن، وهو مستند إلى رواية أشهب.
والثاني: رأى جل المتأخرين، وأصله لأبي القاسم بن الكاتب، وهو مستند إلى رواية ابن القاسم.
وقد اختلف في هذا الأصل، وهو تعين النقدين بالتعيين، وفيه ثلاثة أقوال:
التعيين مطلقاً. ونفيه. والتفرقة: فيتعين إن شاء دفعه، ولا مشيئة لقابضه.
وخرجه المتأخرون على الخلاف في شرط ما لا يفيد. قالوا: إلا أن يكون اختصاص العين بكونه حلالاً أو خاصة لا توجد في غيره، فيتعين بلا خلاف.
الفرع الثاني:
إذا قلنا بالبدل، وأراد أن يعطيه به سلعة أو غيرها. أو قلنا بالفسخ، وأراد تأخير ما دفع، فهل له ذلك؟ فيه خلاف جار على احتياج الفسخ إلى حكم أو ثبوته برد المتعاقدين.
الفرع الثالث:
إذا قلنا بالنقض، فهل ينقض جميع الصرف، أو صرف ما يقابل الزائف إلى كمال ديناراً وأكثر منه، أو ما يقابله خاصة، أو يكون القول الأول إن كان لم يسم لكل دينار ثمناً، أو الثاني إن كان سمى لكل دينار ثمناً على ما تقدم.
فإن اختلف الدنانير نقض ما يقابل الزائف إلى كمال أقلها، فينتقض الجميع بناء على نقض العقد من أصله. والاقتصار على دينار واحد التفات إلى القول بالبدل، ونظر إلى أن النقدين لا يراد بعضها لبعض بخلاف العروض. والاقتصار على قدر الزائف بناء على القول بجواز الصرف في بعض دينار.
ووجه التفرقة ظاهر، والاقتصار على الأقل لأنا لا ننقض إلا ما تدعو الحاجة إلى نقضه، وذلك يحصل بنقض الأقل.
الفرع الرابع:
وهو مرتب على هذا:
لو كان في الدنانير كسور أنصاف، وما في معناها، فقال في الرواية: ينقض كسر منها إن كان الزائف يقابله فأقل.
وقال القاضي أبو الوليد: إن كان أقل منه فيجري على القولين في جواز كسر القطع، فمن منع جاء منه ما في الرواية، ومن أجاز قطع بقدر الزائف.
الفرع الخامس: أن يكون المختلف حلياً ويكون الزائف فيما يقابله، فإن قلنا بنقض الجميع في المسكوك فأحرى ها هنا، وإن قلنا بنقض البعض فها هنا قولان، لابن القاسم: نقض الجميع، لأن هذا مما يقصد بعضه لبعض، ونقض الواحد إلا أن يكون معه أخوة فيتبعه. وسبب القولين: النظر إلى اتحاد العقد أو إلى تعدد المبيع.
الفرع السادس: إذا تساوت الدنانير وسموا لكل دينار منها مقداره من الدراهم، فرأى العراقيون أن هذه الصورة لا يختلف فيها أنه لا ينتقض الكل بوجود التسمية وتساوي الأغراض، فيكون بخلاف التسمية في السلع.
ورأى المتأخرون من المغاربة تساوي التسمية وعدمها. قال بعضهم: وهو مقتضى الروايات. وعلله بأن المعتبر إما بالتسمية بانفرادها، وأما تساوي الأغراض، والأول باطل بالتسمية في السلع فيتعين اعتبار الثاني، ثم يلزم عليه إن يكون وجود التسمية كعدمها.
الفرع السابع: إذا قام بالرد فأرضاه عنه، فقال سحنون: القيام كالرد. والمشهور: التصحيح، بخلاف الرد.
والقولان على الخلاف في الملحق بالعقود هل يعد كالمقارن فيجوز، أو لا يعد كذلك فيمنع، ويصير كتأخير بعض العوض؟
الفرع الثامن: مرتب عليه، وهو: بأي شيء تجوز المصالحة؟ وقد أجازها أشهب مطلقاً، نقداً وإلى أجل، ورأى ذلك شراء نزاع.
وخص ابن القاسم الجواز بما إذا أعطاه من جنس ما دفع أولاً وعجله، وهو حكم الإلحاق بالعقد الأول.
الفرع التاسع: لو قال له بعد الصرف: استرخصت فزدني، فزاده، فهل تعد الزيادة هبة محضة، أو تعد ملحقة بالأصل، فيعتبر فيها ما يجوز في الصرف؟ قولان، وهما على ما تقدم من إلحاق ما بعد العقود بها أو قطعه عنها.
الفرع العاشر: وهو مرتب عليه:
لو وجد في هذا المزيد زائفاً، فهل يده أم لا؟ قولان منزلان على إعطائه حكم العوض أو حكم الموهوب؟
قال بعض المتأخرين: وقد يقال: إذا أعطيناه حكم العوض فيختلف في جواز البدل أو النقض به، وهو تركيب خلاف على خلاف.
قال: وهذا كله إذا وجد الزيف بعد المفارقة أو التراخي، فإن وجد بالحضرة صح الرضى باطراحه، وصح البدل إن تراضيا عليه، فإن لم يتراضيا وكان الصرف على غير معين أجبر من امتنع إن لم يطل. وإن كان على معين فقولان:
إجبار من أبى، وهو بناء على نفي التعيين. ونفي الإجبار، وهو بناء على التعيين.

.القسم الثالث: في الاستحقاق:

ويقع في المسكوك والمصوغ:
فأما المسكوك فإن استحق بعد العقد، وكان بالحضرة لم ينتقض الصرف إلا أن يعين، فيجري على ما تقدم. وإن كان بعد المفارقة أو التراخي، فإن كان الصرف على غير معين فسخ، قاله في الكتاب. وهو بناء على أن ما بعد العقود ملحق بها. والاستحقاق يقتضي كون الصرف لم تكمل مناجزته.
وقال أشهب: يأتي بالمثل، ويصح الصرف. وهو بناء على إلحاق ذلك بالمقارن، أو على أنهما كالمغلوبين على التراخي، وقد تقدم الخلاف في انتهاض الغلبة عذراً.
قال أشهب: وإن كان معيناً انتقض الصرف، وهذا على أصله في التعيين.
وأما المصوغ فإذا استحق انتقض الصرف مع عدم التراضي وطلب المستحق أخذ عين شبيه. فإن رضي بالتمام. فإن كان المصوغ حاضراً والمتعاقدان لم يفترقا، ففيه قولان:
تصحيح الرضى، قاله في الكتاب. وإبطاله. قال أشهب: هو القياس. والذي في الكتاب: استحسان عنده. وهذا الخلاف جار على تنزيل الخيار الحكمي منزلة الشرطي.
فروع: أحدها: لو غاب أحد المصطرفين والمصوغ حاضر، لجرى فيه قولان: الإجازة والمنع.
وعد في الأول كالمبتدي صرفاً من الحاضر، وألحق في الثاني بالموكل يغيب.
الفرع الثاني:
لو فات المصوغ حتى يتعلق بذمة من كان في يده، فقد قالوا: له أن يأخذ ما صرف به، لأنه يكون كالمصرف لما في ذمته.
قال بعض المتأخرين: هذا ظاهر إذا قلنا بضمان المثل، قال: وإن قلنا بضمان القيمة فإن جعل ما أخذ قيمة صح.
الفرع: الثالث: أنه لو صرف مسكوكاً تعدياً كالغاصب والمودع، فإن صرف لنفسه فإنما عليه مثل ما تعدى فيه، فلصاحب الشيء تغريمه المثل. فإن تراضيا على أخذ ما صرف به صح، ويكون صرف ما في الذمة، وكأنه إنما صرف من المتعدي. وصرف لربه فإن أخبر من صرف منه بذلك، فهذا صرف فيه خيار فيجري على حكمه. وإن لم يخبره فللمستحق إجازة الصرف. هذا مقتضى الكتاب.
وقال محمد: ليس له ذلك.
وسبب الخلاف: هل الخيار الحكمي كالشرطي أم لا؟ وأيضاً، فمن خير بين شيئين هل يعد منتقلاً أو آخذاً ما وجب له.

.تكملة:

إذا تقرر اشتراط المناجزة وحكمها، فلنكمل المقصود منها بذكر فصلين:
أحدهما:

.(الفصل الأول) : في بيان ما ذكره بعض المتأخرين:

في ترتيب ما تطلب فيه المناجزة:
قال: أضيق العقود فيها الصرف، وفي معناه بيع أحد النقدين بمثله، ثم يليه بيع الطعام بالطعام، لأنه في الحديث مقرون بالصرف.
ثم تليه الإقالة من الطعام، إذ يحذر فيها من شيئين: بيع الطعام قبل قبضه، وفسخ الدين في الدين.
ثم يليها فسخ الدين في الدين، أعني المحاذرة منه، وفي معناه الإقالة من السلم في العروض. ثم يليه بيع الدين إذا كان غير طعام من أجنبي، وفيه قولان:
أحدهما: أنه كابتداء الدين بالدين فيجوز فيه من التراخي ما يجوز في رأس مال السلم.
والثاني: أنه كالبيع ممن هو عليه، فيكون كفسخ الدين في الدين لا يجوز فيه تراخ. ثم يليه ابتداء الدين وهو عقد السلم، وفيه قولان: المشهور جواز تأخير رأس ماله بشرط ثلاثة أيام. والشاذ منع التأخير.
فإن تأخر بغير شرط ففيه تفصيل يأتي بيانه. وتوجيه القولين في موضعه من السلم.

.الفصل الثاني: في توقع عدم المناجزة:

هل يكون كتحققه أم لا؟ وهو كإضافة البيع إلى الصرف، وفيه خلاف وتفصيل يتبين برسم الفروع. وقد اختلف في ضم ستة عقود إلى البيع، وهي: الصرف، والنكاح، والجعل، والقراض، والمساقاة، والشركة. فالمشهور: منع الضم.
والشاذ جوازه، وهو قول أشهب: واستقرأه أبو الحسن اللخمي من كتاب محمد.
وقد اختلف في تعليل منع ضم العقود الستة إلى البيع على طريقين:
أحدهما: أن البيع يختص بأحكام تخالف ما تختص به فتنافيا.
والطريق الثاني: النظر إلى كل عقد على انفراده، فيعلل منع الجمع بين الصرف والبيع بمحاذرة الاستحقاق، وهو ينقض الصرف كما تقدم، ولا ينقض البيع مطلقاً.
وأما النكاح والبيع، فلأن البيع مبني على المشاحة ولهذا يتقدر فيه العوضان، ويمنع من الجهالة فيهما، والنكاح بخلاف ذلك، فإن الاستمتاع بالبضع غير محدود بإجماع.
وأما الجعل وما ذكر بعده ففيه من الإغرار والخطار ما لا يجوز في البيع لمصالح اقتضته.
وإذا فرعنا على المشهور فليس ذلك مطلقاً، بل يجوز إذا كان أحدهما يسيراً.
وتفصيل ذلك يعلم من فروع:
أحدها: أن يكون ذلك في دينار واحد. واختل فيه: هل يطلب أن يكون أحدهما تبعاً للآخر: الصرف أو البيع؟
والمشهور أن ذلك لا يعتبر ليساره الدينار، وهو اعتبار لليسارة في نفسها، وقيل: يعتبر، وهو اعتبار لليسارة بالنسبة.
الثاني: مرتب عليه: وهو أن اليسارة متى اعتبرت، فكم مقدارها؟ قال في كتاب محمد: الثالث فما دونه، وهو اعتبار اليسارة بالنسبة.
وقال القاضي أبو محمد: الدرهم فما دونه يعجز فيدفع إليه عوضاً بقدره أو يزيد الدينار أو الدرهم، وكسرة غير جائز، فيجوز دفع قدر ذلك للضرورة. وهذا منع الصرف والبيع إلا عند الضرورة إلى جمعها في القدر اليسير جداً.
قال المتأخرون: وكذلك يجري الحكم في بلد يتعامل فيه بالرباعية كصقلية ونحوها.
وكذلك حكاه القاضي أبو الوليد عن بعض فقهاء الصقليين.
الثالث: أن يكون الصرف في أكثر من دينار، فيجوز إذا كان البيع يسيراً.. وكم مقداره؟.
حكى أبو القاسم بن محرز عن بعض الأشياخ أنه يعتبر الثلث فدون.
وقال أبو موسى بن مناس: يعتبر في العرض أن تكون قيمته أقل من صرف دينار، كما يعتبر في الدراهم قدر ذلك. فالنظر إلى الثلث قياس على قولهم في مراعاة الثلث في الأتباع، واعتبار بعض الدينار قياس على ما لو كان البيع الأكثر والصرف الأقل، فلا خلاف ها هنا أنه لا يجوز أن يكون الصرف إلا فيما دون دينار.
وينخرط في سلك البيع والصرف أن يتعاقدا على سلطة بدينار إلا درهماً أو درهمين، فإن كان الجميع نقداً، فإنه جائز إلا على ما قاله القاضي أبو محمد، فإن لم يكن ذلك نقداً، فله أربع صور:
إحداها: أن يتأجل الجميع وهو ممنوع لأنه الدين بالدين.
الثانية: أن تتعجل السلعة ويتأجل الدينار والدرهم.
فالجمهور على جوازه، اطراحاً لحكم الصرف، فإن الدينار والدرهم لما تأجلا ظهر أنهما غير مقصودين.
وقال محمد بن عبد الحكم: لا يجوز. قال بعض المتأخرين: وهو القياس، لا سيما إن راعينا الأتباع في أنفسها.
فرع:
إذا صححنا فما الذي يقضي به عند الأجل؟ قولان للمتأخرين: أحدهما: أنه يقضي على كل واجد بإخراج ما سمى، وهو ظاهر الكتاب.
والثاني: أنه يقضي على من في ذمته الدينار بدراهم، ويتقاضان.
ويتخرج الخلاف على حكم جزء الدينار: هل هو ذهب أو ورق.
الثالثة: أن يتعجل الدينار والدرهم وتتأجل السلعة.
فالمنع في الكتاب. والجواز لأشهب.
فالمنع لأن التعجيل يشعر بالقصد إلى الصرف، فإذا قصد إليه وجب إلحاق ما معه به في التناجز.
والإجازة قياس على ما لو تأجل الدينار والدرهم ونظر إلى اليسارة، فكان الورق كالعدم.
الرابعة: أن تختلف حال الدينار والدرهم بالتعجيل والتأجيل. فالمشهور: المنع.
وروى ابن عبد الحكم الجواز.
فالمنع نظر إلى تأخير عوض الصرف. والجواز اطراح لحكمه لليسارة.
فروع: أحدها: في مقدار اليسير.
وقد اختلف فيه، فروى الدرهمان، وروي الثلاثة.
وقال الشيخ أبو بكر: مقدار ثلث دينار.
الفرع الثاني: أن تكون دنانير، فيستثني من كل دينار منها مقدار اليسير من الدراهم، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: منعه، ولو كان الكل نقداً، وهذا بناء على اعتبار جملة الدراهم، وهي كثيرة.
والمشهور: منع الصرف، والبيع مع الكثرة.
والثاني: الجواز مطلقاً، وهو إما بناءً على جواز الصرف والبيع، وإما على اعتبار كل دينار في نفسه والدرهم بالنسبة إليه يسير.
والثالث: جوازه في النقد خاصة، وهو بناء على ما تقدم في القول الثاني.
ثم يحاذر من التأخير تردد الأمر: هل يعتبر صرف يوم القضاء، فيؤدي إلى الجهالة بما ينوب كل درهم، وذلك كثير لكثرة الدراهم إذا جمعت، أو يعتبر صرف يوم العقد، فيستعجل تحويل الدراهم في ذهب، فيكون صرفاً مستأخراً وصرف ما في الذمة قبل حلوله؟
الفرع الثالث:
أن يستثني جزء من الدينار كالسدس وما في معناه، ففيه قولان:
أحدهما: أنه كاستثناء الدراهم.
والثاني: الجواز مطلقاً.
وهما على خلاف في جزء الدينار، هل يحكم له بحكم الدراهم إذ بها يقضي عند المشاحة، أو بحكم المسمى وهو ذهب، حتى يقع القضاء.
الفرع الرابع:
أن يجد بالدرهم المدفوع زيفاً، فهل يتفق ها هنا على البدل لليسارة، أم يكون حكم الصرف؟ قولان: وهما على الخلاف في الأتباع: هل هي مقصودة أم لا؟
فرع:
يعم حكم البيع والصرف:
وهو أن تستحق السلعة أو يوجد بها عيب يقتضي الرد، فإنه ينتقض الجميع. ولهذا منع في المشهور الاجتماع كما تقدم، هذا حكم ما يمكن فيه الإفراد. فأما ما لا يمكن ذلك فيه إلا بفساده، كالمحلى المباح للاتخاذ فينظر: هل العين تبع للمضاف إليه أم لا؟. ثم هو يقع على وجهين:
أحدهما: البيع بالصنف، وهو ملحق بالركن الثاني إذ المحاذرة فيه من عدم المساواة.
والوجه الثاني: البيع بغير الصنف، وهو ملحق بما نحن فيه، وله صورتان:
إحداهما: أن يقع نقداً فلا خلاف عندنا في جوازه، كان تبعاً أو غير تبع.
والصورة الثاني: أن يكون تبعاً، فيباع إلى أجل، وفيه قولان: المنع وهو المشهور، والجواز وهو لسحنون وغيره.
وهما على الخلاف في الأتباع: هل لها قسط من الثمن أم لا؟
فروع أحدها: ما هو التبع؟. ثلاثة أقوال:
أحدها: الثلث.
والثاني: أنه دون الثلث. وهما على ما تقدم في عد الثلث كثيراً أو يسيراً.
وحكى القاضي أبو الوليد عن بعض أصحابنا العراقيين أن النصف تبع، وبالزيادة عليه يخرج عن حد التبع.
الفرع الثاني:
اختلف المتأخرون في اعتبار التبعية، وهي ها هنا القيمة، وقد قال المتأخرون: فيه قولان: أحدهما: اعتبار القيمة. والثاني: اعتبار الوزن.
وهذا إنما يصح بالنسبة إلى قيمة المحلى، لا إلى جوهره.
الفرع الثالث:
إذا منعنا التأخير فوقع. فهل يفوت بالعقد أو بما يفوت به البيع الفاسد؟ قولان:
وتفويته بالعقد هو قول محمد، وهو مراعاة للخلاف. وإلحاقه بالبيوع الفاسدة نفي للمراعاة.
الفرع الرابع:
إذا فات، فهل يقضى متى وجب الرد، بالقيمة أو بالمثل؟ قولان، وقد تقدما.
تنبيه:
أفات في الرواية بانكسار الجفن، والجفن تبع، وأصلهم أن فوات التبغ لا يؤثر، لكن اعتذر أبو القاسم بن محرز عن ذلك بأن مراد ابن القاسم أن الجفن ملتصق بالنصل، والنصل محتاج إليه، فكان الكل في حكم الشيء الواحد.
الركن الثاني: في تحصيل المماثلة، وما تصح به، والاحتراز من فسادها.
ولا خلاف في اعتبارها، وقد بالغ في مراعاتها في الحديث. حتى قال صلى الله عليه وسلم: «مثلاً بمثل ووزناً بوزن ولا تشفوا بعضها على بعض». ولهذا نجعل توهم الربا كتحققه، فلا نجيز أن يكون مع أحد النقدين أو مع كل واحد منهما غير نوعه، أو سلعة، لأن ذلك يوهم القصد إلى التفاضل، ولهذا منع الدينار والدرهم بالدينار والدرهم.
فرع:
فإن كان المبيع حلياً مختلطاً فله حالتان:
إحداهما: أن يكون الاختلاط من النقدين، كالمختلط من ذهب وورق. إما على مذهب من أجاز ذلك في السيف والمصحف، وإما أن يكون من حلي النساء فله صورتان: إحداهما أن لا يكون أحد الصنفين تبعاً، فلا يجوز بيعه بالعين. حكى بعض المتأخرين: أنه لا يختلف المذهب في ذلك.
الصورة الثانية: أن يكون أحدهما تبعاً، فلا يجوز البيع بنصف الأكثر، وهل يجوز بنصف التبع؟ في الكتاب قولان:
المنع، لأن التساوي لم يحصل وإلحاقاً له بحكم المتميز. والجواز نظراً إلى أن الأتباع تعطى حكم المتبوعات.
فرع ثان مرتب على ما قبله، وهو:
هل تعتبر اليسارة في القيمة أو في الوزن؟ قولان: والنظر إلى القيمة لأنها المقصودة.
وإلى الوزن لأنه المعتبر في جوهر النقدين. قال بعض المتأخرين: والصحيح الأول.
الحالة الثانية: أن يكون الاختلاط بين أحد النقدين وبين غيرهما من السلع، كالسيف المحلى بفضة يباع بفضة. ولا يخلو أن تكون فضته تبعاً أو نصله. فإن كانت فضته تبعاً فالمشهور أنه جائز. ومنعه محمد بن عبد الحكم.
والقولان على الخلاف في الأتباع: هل تعطى حكم متبوعاتها أم لا؟
فروع أربعة: أحدها: إنا إذا أجزنا البيع، فهل يجوز التأجيل؟ قولان:
المنع، وهو المشهور، وهو على إعطاء التبع قسطاً من الثمن. والجواز، وهو رأي سحنون، فلم يعطه قسطاً من الثمن.
ثم إذا منعنا، فهل منع تحريم أو كراهة؟ قولان: وفي الكتاب: التحريم. وعند محمد: الكراهة، وهو حكم بالجواز لكن راعى الخلاف.
الفرع الثاني:
أن يكون النصل تبعاً للحلية، فهذا لا يجوز أن يباع بنصف ما فيه.
فإن بيع: فهل يفوت بما يفوت به البيع الفاسد؟ قولان: والمشهور فواته بذلك.
ورأى سحنون: أنه لا يفوت بشيء، وتنقض فيه البياعات، وترد مع فوات عينه قيمة عروضه ووزن فضته. وهذا أصله في البيع الحرام المتفق على تحريمه لأنه لا يفوت بشيء وتنقض فيه البياعات.
الفرع الثالث:
أن تكون الحلية مختلطة من الذهب والفضة على الوجه المتقدم، فهذا يجري على ما تقدم في المختلط، ولا سلعة معه، وأحرى ها هنا بالمنع لزيادة السلعة إلا أن يكون جميع ذلك تبعاً للعروض، فأحرى بالجواز.
الفرع الرابع:
حكم الثياب تكون فيها الأعلام، وهي على قسمين:
أحدهما: ما تخرج منه عين عند السبك، وهذا بمنزلة المحلى، فيجري على حكمه.
والقسم الثاني: ما لا يخرج منه شيء.
قال بعض المتأخرين: وهذا هو السمنطار. وقد تردد أبو الحسن اللخمي في حكمه: هل يلغى لأنه لا تحصل منه عين، أو يلتفت إليه لأن المقصود الذهب. ذكر غير أبي الحسن اللخمي عن المتأخرين قولين، وسببهما ما تقدم.
قال بعض المتأخرين عقيب الكلام في هذه المسألة: وقد كنت سألت بعض أشياخي عن حكم السكة الجارية ببعض مدن إفريقية: هل تكون بمنزلة المختلط، فيختلف: هل تباع بالأقل؟ وهل ينظر إلى الوزن أو القيمة؟
قال: فكان جوابه عن هذا أنها بخلاف المختلط، لأن ذلك يقصد ذهبه وفضته جميعاً، والمسكوك إنما يقصد ذهبه لا غير.
ثم قال: وهذه شهادة وأظنها لا تطرد فإن هناك ذهباً يسمى اللواتية يقصد ذهبه وفضته.
قال: وأما ما لا يخرج منه شيء، فلا شك أنه كالسمنطار.
ولنختم هذا الركن بذكر خمس مسائل:
إحداهما: هل يمنع الاختلاط بالغش من جواز بيع الشيء بصنفه؟ وفيه قولان:
حكى الشيخ أبو إسحاق: المنع. قال بعض المتأخرين: ومقتضى الروايات الجواز.
وسبب الخلاف: النظر إلى صورة المماثلة، والحكم للغش بأنه تبع، فيطرح، أو ينظر إلى الحاصل من المغشوش، وهو دون ما في مقابلته، فيقع التفاضل.
ولا يمكن أن يقال: ينظر إلى قدر الخالص فتقع المعاملة بمثله، إذ الغش سلعة وقد لا تتحصل حقيقة الخارج، فيبطل التماثل من كل وجه.
فرع:
وحكم المغشوش أن يكسر متى خيف المعاملة به. وإن لم يذهب الخوف كسره، فيبالغ في إذهاب ذلك. وإن لم يحصل إلا بالسبك سبك وأخرج خالصه.
المسألة الثانية: حكم المسافر يأتي إلى دار الضرب بتبر وهو مضطر إلى الرحيل وخائف من المطل. فهل يجوز أن يدفع فضة أو ذهباً ويأخذ وزن ذلك من صنفه مسكوكاً، ويدفع الأجرة؟ قولان: الجواز والمنع.
وقال أشهب في كتاب محمد: قال مالك: وهذا إنما كان حين كانت الذهب لا تنقش والسكة واحدة. وأما اليوم فلا، قد صار في كل بلد سكة يضربون فيها فليعطه جعله، وليضرب له ذهبه.
وقال محمد: لما اتسع الناس بالضرب وزالت الضرورة لم تجز.
وينخرط في هذا السلك مسألة دار الإشقالة وهي المعاصر: يأتيها من معه زيتون، فيقدر قدر ما يخرج فيأخذه زيتاً ويعطيهم الأجرة.
ومسألة السفاتج وهي سلف الخائف من غرر الطريق، يعطى بموضع ويأخذ حيث يكون متاع الآخذ، فينتفع الدافع والقابض.
ومسألة السلف طعاماً مسوساً في الشدة يأخذ جديداً عند الرخص. وفي معناه مسف الأخضر يأخذ يابساً. والكل بشرط، وفي كل ذلك قولان.
ولا يخفى ما فيها من مخالفة الأصول وحصول الربا، ومنفعة الدافع، لكنها ضرورات.
وسبب الخلاف: في جميعها القياس على الرخص، فمن قاس أجاز، لأنها بمنزلة العرايا، ومن منع لم يجز.
المسألة الثالثة: هل يطلب حكم المناجزة والمماثلة بين السيد وعبده، حتى لا يجوز له أن يرابيه؟ قولان. والمشهور: المنع. وأجازه ابن وهب.
وسبب الخلاف، النظر إلى الصورة، وهي معاملة، والربا محرم، أو النظر إلى قدرته على الانتزاع، فلا يعطى حكم المعاوضة. وهذا يلتفت أيضاً على من ملك أن يملك هل يعد مالكاً حقيقة أم لا؟
قال الأصحاب: إلا أن يكون على العبد دين فلا تجوز مراباته بلا خلاف، لتعلق حق من له الدين، فلا يقدر على الانتزاع.
المسألة الرابعة: قال مالك في الواضحة: نهى عمر الأعاجم أن يبيعوا في أسواقنا، حتى يتفقهوا في الدين.
قال مطرف وابن الماجشون: يعني من لا يعرف تحريم الربا وكراهة الصرف من غير مناجزة، والدرهم بالدرهم بالدرهم، وبيع الطعام قبل استيفائه. وشبه ذلك من كبيرات الأمور وظاهر الفقه. فأما خفيات الفقه فلم يرده.
وقال ابن القاسم في الكتاب: إن مالكاً كره أن تكون النصارى في أسواق المسلمين لعملهم بالربا واستحلالهم له. قال: وأرى أن يقاموا من الأسواق.
وقال أبو الحسن اللخمي عقب هذا الكلام: قد تغير أمر الناس اليوم، وكثر العمل بالربا من غير النصارى، وإذا كان ذلك كذلك، وكان رجلان يعملان بالربا أحدهما مسلم والآخر نصراني كان الصرف من النصراني أخف، لأنه لو أسلم لحل له ما في يديه كان ذلك عن ربا أو عن ثمن خمر ولو تاب المسلم لم يحل له إمساك ما في يديه من ذلك.
المسألة الخامسة: النظر في اختصاص المناجزة والمماثلة بالعين، وجواز التفاضل والنساء في الفلوس، أو جريان ذلك في الفلوس وتحريم التفاضل والنساء فيها أو الكراهة للمعاملة بها دون رعاية المناجزة والمماثلة. وفي المذهب ثلاث روايات: فأما الأوليان في الجريان ونفيه، فقد تقدم ذكر سببهما في أول باب الصرف.
وأما الكراهة فسببها القول بالجواز مع مراعاة الخلاف.
فرع:
لو كان التعامل بالفلوس ثم قطعت، فهل يقضي فيها بالمثل، أو بالقيمة؟
المشهور المعروف من المذهب: القضاء بالمثل، وإن فسدت إذا وجدت.
وحكى بعض المتأخرين عن كتاب ابن سحنون القضاء بالقيمة. ورآه أبو إسحاق التونسي وغيره قياساً. وهو نظر إلى كونها عادت إلى ما لا ينتفع به إلا منفعة لا كبير فائدة فيها، وقد دخلا على المنفعة، فالعدل القضاء بالقيمة، واختلاف الأحوال كاختلاف الأعيان في هذا.
ونظر في المشهور إلى الأصول، وهي تقتضي القضاء بالمثل فيما يوجد مثله.
فرع مرتب عليه: قال الأصحاب: فلو انقطعت فلم توجد، فله قيمتها يوم انقطعت إذا كان الدين حالاً. وإن كان إلى أجل، فيوم حلوله أن انقطعت قبله إذا لم يتوجه قبل الحلول طلب، ولو آخره بعد الحلول كانت القيمة يوم الحلول.
ورأى بعض المتأخرين أنه إنما ينبغي أن تجب القيمة ها هنا يوم القضاء لا يوم توجه الطلب.
الركن الثالث: فيما يخص المراطلة والمبادلة وحكم الاقتضاء:
فأما المراطلة فتجوز في سائر الأصناف، وإن اختلفت أشخاصها، كما إذا كان المسكوك في مقابلة المصوغ، أو أحدهما في مقابلة المكسور أو التبر. وهل تعتبر فيها السكة والصياغة؟
ثلاثة أقوال:
الاعتبار كما في الاقتضاء، لأنهما مقصودتان.
ونفيه، لأن المقصود تساوي الوزن، إذ هو المعتبر في الحديث. ولا تعتبر السكة ولا الصياغة، ولو اعتبرنا لكانتا كسلعتين ضمتا إلى العين فيجب المنع. وهذا لم يقله أحد.
والتفرقة، فتعتبر الصياغة لأنها صناعة مقصودة، ولا تعتبر السكة لأنها علامة، وهي كالختم في العين.
ثم المراطلة لا تخلو من حالتين.
إحداهما: أن تتحد أشخاصها، مثل أن يكون كل واحد من العوضين ذهباً واحداً، فهذا تجوز فيه المراطلة مطلقاً، إلا أن يكون مسكوكاً في مقابلة مصوغ، فيجري على ما تقدم من النظر إلى مراعاة السكة والصياغة أو اطراحهما، فإن راعيناهما امتنع التساوي إلا أن يكون الفضل في طرف واحد وتتساوى الكفتان، وإن لم نراع ذلك نظرنا إلى عدم الغش فأجزنا على ما تقدم.
الحالة الثانية: أن تختلف أشخاص العين، فذلك في مقصودنا ثلاث صور:
إحداها: أن يكون الجيد كله في جهة، فهذا تجوز فيه المراطلة قولاً واحداً.
والثانية: أن يكون أحد الذهبين مثلاً أفضل من المنفرد والثاني أدنى، فهذا يمنع المراطلة قولاً واحداً، لأنه قد اغتفرت رداءة الرديء لجودة الجيد، فخرج عن باب المساواة، وقدر ذلك بأن أحدهما زاد في مراطلة الجيد ونقص من مراطلة الرديء.
والصورة الثالثة: أن يكون المنفرد مساوياً لأحد المختلطين والآخر أدون منه أو أجود، ففيه خلاف: الجواز لابن القاسم لأن الفضل في جهة واحدة.
والمنع لسحنون حماية للذريعة، وتوهما لقصد الزيادة للجيد، أو النقص للرديء، ولولا قصد ذلك لم يخلط بل يراطل المخالط ويبقى المساوي لنفسه.
فروع ثلاثة: أحدها: أن ما تقدم من الخلاف في مراعاة السكة والصياغة، هل يختص باتحاد العوضين أو يجري مع الاختلاط؟ قولان للمتأخرين.
قال بعضهم: والظاهر أنه لا يجري لوجود القصد إليه، فيتفق على اعتبارهما مع الاختلاط، ويختص الخلاف بالانفراد.
الفرع الثاني:
المراطلة بالمسكوك قبل أن يعلم وزنه. وللمتأخرين في ذلك قولان:
المنع لأنه من باب الجزاف. والجواز لأن التساوي حاصل. وأجرى القاضي أبو الوليد هذا على الخلاف في جواز بيعها جزافاً.
قال بعض المتأخرين: وقد يكون اختلاف المتأخرين في هذا مبنياً على حالين. فإن كان التعامل بها عدداً لم يجز، وإن كان وزناً جاز.
الفرع الثالث:
أن يكون المتراطلان شريكين في حلي أو نقره، فيبيع أحدهما حصته بمثل وزنها من صنفها، فقولان: الجواز والمنع، وعلل المنع بأن الكسر يقتضي تحيفاً، وإن قل فلا تقع المساواة. وعلل أيضاً بأن المراطلة يطلب فيها أن يكون كل واحد من العوضين في كفه.
قال بعض المتأخرين: وعلى هذا لا يجوز أن يتراطلا بصنجة يوزن بها كل واحد من العوضين ويلزم عليه أن لا تجوز مراطلة ما في الذمة إلا أن تجعل قضاء.
قال: وهذا هو مقتضى لفظ المراطلة. وهذه الصورة التي ذكرها في المراطلة بصنجة يوزن بها كل واحد من العوضين قد ذكر الإمام أبو عبد الله أنها اختيار بعض المتأخرين من شيوخه، قال الإمام: وهو احتياط منه على التحفظ من الربا، وحسم مادة الشكوك في التفاضل لأن الميزان قد يكون لا يتساوى الوزن في كفتيه جميعاً كما يشاهد في بعض الموازين، فبين الإمام أن اختيار هذه الصورة احتياط للتساوي، كما أن اختيار الصفة الأخرى احتياط للتناجز.
وأما المبادلة فتختص بالمسكوكين، ويطلب أيضاً فيهما التساوي، إلا أنهم أجازوا أن يبدل اليسير بأوزان منه إذا كان القصد المعروف والتعامل بالعدد. ولذلك ثلاث صور:
إحداهما: أن يكون الأنقص أجود، فهذا لا يجوز قولاً واحداً لخروجه عن باب المعروف.
والثانية: أن تتساوى السكتان، فيجوز قولاً واحداً أيضاً لأن الفضل في أحد الطرفين.
والثالثة: أن يكون الأرجح أفضل، فقولان: الجواز لابن القاسم، وهو الأصل لأنه أبلغ في المعروف. والمنع لمالك، وعلل بوجهين: أحدهما ما قاله الشيخ أبو الحسن من أن الشرع منع جواز التفاضل بين الذهبين، فحصل الاتفاق على جواز بدل الناقص بالوازن من سكة واحدة، وبقي ما سواه على أصله. قال الإمام أبو عبد الله: وهذا يقوى على القول بمنع القياس على الرخص.
الثاني ما قاله أبو الطيب بن خلدون من أن السكك يختلف نفاقها عند الناس، فتنفق مرة سكة ومرة غيرها. فمن التفت إلى الحال أجاز، ومن التفت إلى المآل منع.
وهذا سبب منع اقتضاء السمراء من المحمولة، واقتضاء القمح من الشعير إذا كان ذلك قبل الأجل وهو من قرض.
فرعان: الأول: في مقدار ما يجوز ذلك فيه في المبادلة. أما الثالثة فيجوز قولاً واحداً، كما يمنع ما فوق الستة قولاً واحداً أيضاً. وأما ما بين ذلك ففيه قولان: المنع والجواز، وهما خلاف في شهادة باليسارة.
الفرع الثاني:
في مقدار ما يغتفر من النقص، وأبلغ ما قيل فيه: السدس في كل دينار، وقيل: الدانقان، وهو خلاف في شهادة أيضاً.
وأما الاقتضاء فنعقد له أصولاً ونذكر ألفاظاً استعملها أهل المذهب في النقدين تختلف أحكامها.
فأما أصول الاقتضاء، فنقول: إن الأمة أجمعت على جواز القرض وإن كان مخالفاً للأصول في أن المقرض شيئاً لا يعلم هل يرجع إليه عين شيئه أو مثله، إلى غير ذلك من عدم التناجز، وسننبه عليه عند الكلام على أحكام القرض. والذي نذكره الآن أن القضاء لا يخلو من أن يكون قبل الأجل أو عنده، وفي معناه مع بعد الأجل. ولا يخلو من أن يكون القضاء أكثر أو أقل أو مساوياً. والكثرة لا تخلو من أن تكون في المقدار أو في الصفة. فإن قضى مساوياً أو أفضل صفة جاز مطلقاً، وإن قضى أفضل مقدار فقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال:
1- المنع، إلا في اليسير جداً، وهو مذهب الكتاب.
2- والجواز على الإطلاق، وهو رأي عيسى بن دينار وابن حبيب.
3- والجواز ما لم يكثر، وهو رأي أشهب.
وسبب الخلاف: القياس على الرخص إذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى جملاً عن بكر.
ووقع الإجماع على جواز الأفضل في الصفة. فمن استعمل القياس عليها أجاز، ومن لم يستعمله منع إلا في اليسير، لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه، والتفرقة مراعاة للخلاف. فمن قضى أقل منه قبل الأجل منع، لأنه: ضع وتعجل.
ويستوي في ذلك النقص في الصفة وفي المقدار، ويجوز بعد الحلول مطلقاً. هذا حكم القرض.
فإن كان العين في الذمة من بيع فهو كالقرض إلا في قضاء الأكثر مقداراً فإنه جائز مطلقاً.
هذا إذا كان الفضل في إحدى الجهتين.
فإن دار من الطرفين منع قولاً واحداً، إذ خرج من باب المكارمة إلى باب المكايسة.
وأما الألفاظ فهي قولهم: القائمة، وهي الدنانير التي تزيد آحادها في الوزن.
وقولهم: الفرادى، وهي التي تنقص. وقولهم: المجموعة، هي المجموع من ذهوب، ومن وازن وناقص. فللقائمة فضل الوزن والعيون. وللمجموعة فضل العدد ونقض الصفة.
وللفرادى نقص الوزن، وقد تكون خالصة أو دون ذلك.
ومن استعمالهم أيضاً الدراهم السود، وقد جعلها في بعض الروايات أفضل من البيض، وفي بعضها بالعكس، ومنها المحمدية واليزيدية، والمحمدية أفضل.

.ويتم المقصود من هذا النوع بفصلين.

.أحدهما (الفصل الأول): في تنزيل اقتضاء بعض هذه السكك من بعض على الأصول التي تقررت:

وقد منع في الكتاب اقتضاء المجموعة من القائمة والفرادى وأجاز اقتضاء القائمة منهما، وأجاز أيضاً اقتضاء الفرادى من القائمة دون المجموعة.
ووجه تنزيل هذا على ما تقدم من الأصول: أن المجموعة إذا اقتضيت من القائمة قابلت فضيلتا الوزن، والجودة فضيلة العدد، وكذلك في اقتضائهما من الفرادى تقابل فضيلة الجودة فضيلة العدد.
وأما اقتضاء القائمة من الفرادى، فإن فضيلة الوزن انفردت من مقابل لها.
وكذلك في اقتضائهما منها.
وأما اقتضاء الفرادى من المجموعة فلمقابلة فضيلة الجودة لفضيلة الوزن.
وأما اقتضاء القائمة من المجموعة فكان مقتضى ما علل به منع اقتضاء المجموعة منهما من مقابلة فضيلتي الجودة والوزن لفضيلة العدد المنع، لكن ما كانت المجموعة هي الثابتة في الذمة والاعتبار فيها بالوزن سقط اعتبار العدد، فتجردت فضيلتا الجودة والوزن عن مقابل لهما، فجاز الاقتضاء.

.الفصل الثاني: في اعتبار السكة والصياغة في الاقتضاء:

وقد قال الشيخ أبو الطاهر: لا خلاف في المذهب أن السكة والصياغة معتبرتان في الاقتضاء.
ثم حكى عن أبي الحسن اللخمي أنه يجري ذلك على قولين: إذ أجرى الخلاف في الاقتضاء: هل بابه باب المراطلة أم لا؟، وعول على روايات منها قولهم: إذا أسلف قائمة بمعيار، أو باع بقائمة وزنها كذا، فإنه يجوز أن يقتضي مجموعة بمثل ذلك الوزن، وإن كانت أكثر عدداً. قال: وهذا أحد القولين أن الاقتضاء كالمراطلة.
قال الشيخ أبو الطاهر: وليس كما ظنه، الأصل أن العدد إنما يعتبر إذا لم يكن التعامل بالوزن. وإن تعاملا بالوزن فالعدد مطرح. هذا تمام باب الصرف، وقد نجز بنجاز أركانه.
النوع الثاني: في بيان أحكام الربا في المطعومات. والكلام فيه يتعلق بأطراف:
الطرف الأول: فيما يجري فيه الربا من الأطعمة.
وهو كل ما تحققت فيه علته. وقد اختلف أهل المذهب في أن الأعيان الأربعة المنصوص عليها هل تنفرد كل عين منها بعلة تختص بها، ويلحق بها ما شاركها فيها، أو تشترك كلها في علة متحدة شاملة لجميعها.
فأما من قال باختصاص كل عين بعلة، فقال: علة البر الاقتيات مع التوسع، علة الشعير الاقتيات مع ضيق الحال، وعلة التمر التفكه، وفيه معنى القوت، وعلة الملح إصلاح الأقوات، وهو أيضاً كالإدام فيها، فإن الخبز واللحم إذا لم يكن فيهما ملح نافرتهما الطباع. وهذه العلل الأربع لا تنفك عن الادخار.
وأما القائلون باتحاد العلة فإنهم اختلفوا في تحقيقها. فمنهم من قال: هي الاقتيات، وهو اختيار القاضي أبو إسحاق. ومنهم من قال: هي الادخار. ومنهم من جمع بين الوصفين فاعتبر مجموعهما. قال بعض المتأخرين: وهذا هو المعول عليه في المذهب.
وأضاف القاضيان أبو الحسن وأبو محمد إليهما وصفاً ثالثاً، وهو كونه متخذاً للعيش غالباً.
وأنكر أبو الحسن اللخمي هذا، وقال: إنما يحسن هذا التعليل لوجوب الزكاة، فإنها متعلقة بما هو أصل في العيش غالباً، ولهذا لم يوجبها في الجوز واللوز، وإن كان يحرم فيهما الربا، لأنهما وإن ادخراً فلا يدخران لأنهما أصل في العيش غالباً. وأنكر أيضاً تعليل التمر بكونه متفكهاً به لأجل أنه كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوتاً.
هذا تخليص طريق الأصحاب في تحقيق علة الربا، فيجري حكم الأطعمة على اختلافهم في تحقيق العلة.
وينقسم الطعام بحسب ذلك ثلاثة أقسام: قسم اتفق أهل المذهب على أنه ربوي، وهو ما اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة فكان مقتاتاً مدخراً متخذاً للعيش غالباً، كالحنطة والشعير والسلت والعلس والأرز والدخن والذرة والقطاني والتمر والزبيب واللحم والملح إلى ما في معنى ذلك.
وقسم اتفق على أنه ليس بربوي لخلوه عن جملة الأوصاف المذكورة، فليس متخذاً للعيش غالباً ولا مدخراً ولا مقتاتاً، وهذا كالبقول مثل الخس والهنديا والقطف، وما أشبه ذلك، كالفواكه التي لا تقتات ولا تدخر.
وقسم اختلف فيه لاتصافه ببعض الأوصاف المذكورة وخلوه عن بعض، الجوز واللوز والفستق والبندق، وغيرها مما يدخر من الفواكه ولا يقتات. فمن اعتبر مجرد الادخار أجرى فيها الربا، ومن اعتبر الادخار والاقتيات لم يجره فيها.
قال الشيخ أبو الطاهر: وينخرط في سلك هذا الاختلال أيضاً الفواكه التي تدخر في قطر دون قطر كالخوخ والرمان والإجاص والكمثري والموز ونحوها.
قال الإمام أبو عبد الله: ورما كان سبب هذا الاختلاف منازعة في المختلف فيه هل هو مما يدخر، أو لماذا يدخر هل للدواء وما في معناه أو للأكل والائتدام.
قال: والنكتة التي تدور عليها فروع هذا الباب هي اعتبار الغرض في مقتضى العادة في الطعام هل يدخر للدواء والعلاج أو للاقتيات والأدم وإصلاح القوت.
فروع: من هذا القسم. الأول: في البيض. والمشهور من المذهب كونه ربوياً. وعند الشيخ أبي إسحاق قولان.
وروى أبو الحسن اللخمي: أن كونه ربوياً أبين، لأنه مما يدخر، وإنما يسرع إليه التغير في بعض أزمنة الصيف.
7قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا يقتضي كون الخلاف عنده على النظر إلى ما يدخر في قطر دون قطر أو في زمن دون زمن، وليس كذلك بل الخلاف على أن العلة هي الادخار للأكل،
فيكون هذا ربوياً، أو للقوت فلا يكون ربوياً.
الفرع الثاني:
في اللبن. قال الشيخ أبو الطاهر: ولم يختلف أهل المذهب في كون اللبن ربويا على اختلاف أصنافه، وهو إن كان لا يدخر على حالته فإنه يستخرج منه ما يدخر كالسمن والجبن.
وقال أبو الحسن اللخمي: يختلف في بيع المخض بالمخيض والمضروب بالمضروب متفاضلاً، لأنهما لا يدخران. فمن منع التفاضل بينهما منع أن يباع شيء منه بحليب أو سمن أو زبد أو ما في معناه لأنه كالرطب باليابس. ومن أجاز التفاضل أجاز بيعه بأي ذلك أحب من الحليب وغيره.
قال: وقال مالك في المدونة: لا بأس بالسمن باللبن الذي قد أخرج زبده.
وهذا لا يصح إلا على القول بأن التفاضل بينهما جائز، لأنه كالرطب باليابس، وأرى أن يجوز التفاضل في المخيض والمضروب، لأنه مما لا يدخر.
ومن مع من ذلك حمله على الأصل.
قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا الذي ذكره وما عول عليه من المدونة فيه نظر، لأنه لا خلاف في المذهب أن لبن الإبل ربوي، وإن كان لا يدخر، ولا يستخرج منه ما يدخر للاقتيات أو للأكل وليس ذلك إلا لأنه مقتات، وهو غالب أقوات الأعراب الذين خوطبوا بمبتدأ الشرع.
والمخيض والمضروب فيه نوع من هذا المعنى. ولعل إجازته في الكتاب اللبن الذي قد أخرج زبده بالسمن بناء على أن السمن نقلته الصنعة والنار فصار كجنس ثان، وإذا احتمل ذلك فكيف لا يصح إلا على القول بجواز التفاضل؟
الفرع الثالث:
في جريان الربا في الماء:
قال الإمام أبو عبد الله: لا ربا فيه عندنا، هذا هو المعروف من مذهبنا. قال: وذكر القاضي أبو محمد: أن رواية ابن نافع بأن بيع الماء بالطعام إلى أجل لا يجوز، يخرج منها إثبات الربا فيه.
قال: وهذا التخريج فيه نظر، فإن من المطعومات ما يحرم بيعه بالطعام إلى أجل، ويحرم بيعه قبل قبضه كالفاكهة التي لا تقتات ولا تدخر، ومع هذا المنع يجوز الربا فيها.
قال: فإن قلنا بتصحيح تخريج القاضي أبي محمد، وأثبتنا الربا فيه، فيبعث دار بدار، وفي كل دار منهما بئر حلوة، أو كان فيها عينان كذلك، فإن قلنا بأن الأتباع مقصودة في العقود منعنا هذا البيع، وإن قلنا: إن الأتباع لا حصة لها من الثمن، وإنها غير مقصودة في العقود جاز البيع وإن كان فيه الربا، لكون الماءين تبعاً في الدارين.
فرع من القسم الأول: وهو حكم العنب الذي لا يجف زبيباً، والرطب الذي لا يثمر، والتين الذي لا ييبس.
وفي إجراء الربا فيها قولان، سببهما النظر إلى أنها أنواع من أجناس الغالب ادخارها، فتعطى أحكام أجناسها، أو النظر إليها في أنفسها، وهي لا تدخر فتعطي أحكام أنفسها. والنظران على مراعاة النوادر.
ومما يعد من القسم الثالث التوابل: وفي جريا الربا فيها وعدمه قولان، لابن القاسم وأصبغ. فابن القاسم نظر إلى أنها مصلحة للقوت. وعلل أصبغ بأنها أكثر ما تستعمل على وجه التداوي.
وأما البصل والثوم فمخالفان للبقول: إذ الغالب فيهما اليبس والادخار، فلا يجوز التفاضل، لا في رطبها ولا في يابسها.
قال بعض المتأخرين: وبالجملة فالرجوع في هذا الفصل إلى العوائد، وحق المفتي أن يحيل في كل نازلة على أرباب العوائد، وإن حكم في شيء مطلقاً خرج عن باب الفتوى إلى باب، الشهادات.
الطرف الثاني: في طريق الممثلة.
وهي في الحبوب الجافة، ما اعتبره فيها من كيل أو وزن، وما لم يكن له فيه منها اعتبار اعتبر فيه العادة العامة إن كانت. فإن اختلفت العوائد فيه قدر بعادة أهل بلدة، ولا يخرج عن العادة، فإن جرت العادة فيه بالوجهين قدر بأحدهما أيهما كان.
فرع:
اختلف في بيع القمح بالدقيق، فقيل بالجواز مطلقاً، وقيل بنفيه كذلك: وقيل بجوازه بالوزن لا بالكيل.
ومثار الخلاف: النظر إلى التساوي وقد وجد، أو النظر إلى أن الدقيق له تخلخل، والقمح أزيد منه.
وأما التفرقة فبناء على أن الوزن يؤمن من الزيادة بخلاف الكيل. وبعض المتأخرين يرى أن هذا تفسير القولين ويجعل المذهب على قول واحد.
وبعضهم ينكر ذلك ويقول: هذه التفرقة قد توقع في جهالة إذا كانت العادة فيهما الكيل دون الوزن. فإن كانت العادة جارية فيهما بهما صح هذا القول.
والمحاذرة عند الجميع من الخروج عن العادة لأنه انتقال من العلم إلى الجهالة، والجهالة حالة العقد بالمماثلة كتحقق المفاضلة. ولذلك لا يجوز بيع صبرة بصبرة جزافاً، وإن خرجتا متساويتين، ولا بيع مد ودرهم بمد ودرهم، لأن حقيقة المماثلة غير معلومة إذ لو وزع ما في أحد الجانبين على ما في الجانب الآخر باعتبار القيمة أفضى إلى المفاضلة.
واختلف في فرعين: أحدهما: مد قمح ومد دقيق بمدي قمح أو بمدي دقيق، فالمشهور المنع. وأجازه محمد.
وسبب الخلاف: هل يعد الدقيق كذهب مع ذهب أو كفضة أو سلعة مع ذهب؟
ولهذا شرط محمد في الإجازة أن يكون الفضل في أحد الجانبين كما تقدم في المراطلة بذهب مختلط. وكذلك الخلاف لو كان قمح ودقيق بقمح ودقيق.
الفرع الثاني:
مد قمح ومد شعير بمدي قمح أو بمدي شعير.
والخلاف فيهما على ما تقدم. وأحرى ها هنا بالمنع كما صار إليه في المشهور، لأن الشعير كالنصف الآخر، والخلاف في عده صنفاً قائماً بنفسه أشهر منه في عد الدقيق صنفاً قائماً بنفسه.
قال بعض المتأخرين: ولهذا لم يذكروا خلافاً إذا كان مد قمح ومد شعير بمد قمح ومد شعير، بل منعوا.
فروع في التحري: الأول حيث فقدنا الميزان فيما يقدر بالوزن جاز التحري فيه إذا كان يسيراً.
وقيل: لا يجوز كالكثير على المنصوص.
واستقر الشيخ أبو الوليد جوازه في الكثير من جواز الشاة بالشاة مذبوحتين.
وحكى بعض المتأخرين جواز التحري مطلقاً من غير تقيد بوزن ولا يسارة، وهو بعيد جداً.
الفرع الثاني:
وهو مرتب هو مما بعده من الأول:
وهو أن اللحوم متى تحريت أو وزنت، وبيع بعضها ببعض، فهل تعتبر نقية من العظم فيتحرى ما فيها منه حتى يسقط أو لا يلتفت إلى ذلك؟ قولان:
المشهور: نفي الالتفات إليه، لأنه موجود في أصل الخلقة، وبه قوام اللحم، فأشبه النوى في التمر.
والقول الثاني أنه شيء غير مقصود وهو مزال، فترك النظر فيه يؤدي إلى التفاضل. ذكره ذلك الشيخ أبو إسحاق.
الفرع الثالث: من سلكه. وهو أن البيض إذا قلنا بأنه ربوي، فأجزنا بيع بعضه ببعض تحرياً، فإن كان فيه بيض نعام فهل تتحرى ويسقط قشره، حتى لا يجوز بيعه، إلا أن يستثنيه بائعه؟ قولان.
والاستثناء لأنه كسلعة مع ربوي فلا يجوز بيعه وهي معه بصنفه. ونفى الاستثناء، لأنه غير مستقبل إلا بالقشر، ولا يمكن بقاؤه مفرداً، فهو من ضرورته، فيعطى حكم العدم أو حكم ما هو حافظ له.
الرابع: بيع الشاة بالشاة مذبوحتين:
وفي جواز ذلك تحريا قولان: وهما على ما تقدم من جواز التحري ومنعه، وفيه قول آخر أنه لا يجوز حتى يستثني كل واحد منهما جلد شاته، لأنه سلعة مع ربوي يقابل بمثله.
ولم يلتفت إلى هذا في القولين الأولين، لأن الجلد حافظ كما قيل في القشر، أولاً لأنه تبع، أو لأنه لحم، إذ يؤكل مسموطاً. وعلى هذا عول القاضي أبو الوليد.
الخامس: بيع الخبز بالخبز، ورطوبتهما مختلفة. وقد أجازوه تحرياً. واختلف في الذي يتحرى فيه:
فرواية المتقدمين تحري دقيقه.
وقال بعض المتأخرين: إنما يتحرى الدقيق إذا كان الخبزان مما لا يجوز فيه التفاضل، فأما إن كان مما يجوز التفاضل بينهما كالقمح والذرة مثلاً، فلا يلتفت إلى الدقيق، ولكن تحرى الرطوبة في الخبز.
ورأى الشيخ أبو الوليد أن النظر إلى تماثل الخبز في نفسه وزناً دون الالتفات إلى تحري الدقيق.
السادس: إذا قلنا بأن الألوان كلها صنف واحد على ما سيأتي الخلاف فيه، فبيع بعضها ببعض، فهل يعتبر اللحم فيتحرى أو يعتر هو والمرقة؟ قولان للمتأخرين.
ورأى بعضهم أن اعتبار المرق يخرج على الاختلاف في الأتباع هل تعطى أحكام أنفسها أو أحكام متبوعاتها؟. قال غيره: وهذه شهادة بأن الأمراق تابعة.
الطرف الثالث: في الحالة التي تعتبر المماثلة فيها.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: «أينقص الرطب إذا جف؟» فقيل: نعم. فقال: «فلا إذن».
فقد نبه صلى الله عليه وسلم على اعتبار حالة الكمال. فإذا كان المبيع لا يقع فيه التماثل عندها منع بيعه بكامل.
وعلى هذا نقول: لا يخلو الرطب من أن تكون رطوبته أصلية، وله كمال بعدها هو المقصود من نوعه، أو يكون كماله المقصود هو حال الرطوبة، وجفافه إنما يراد لمعنى آخر أو تكون رطوبة طارئة بعد الكمال. فهذه ثلاثة أقسام.
أما القسم الأول: فلا يجوز بيعه بكامل، وقد نص في الحديث على منع بيع الرطب بالتمر ويلحق به ما في معناه من الفواكه والحبوب.
ولمنعه سببان: توقع الربا، كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، والمزابنة، وهي تجري في الربوي وغيره.
وهل يجوز الرطب بالرطب؟
أجازه في المشهور نظراً إلى الحال وهو مقصود. ومنع ابن الماجشون التفاتاً إلى حال الكمال.
قال بعض المتأخرين، وكأنه يرى أن الرطوبة ماء انضاف إلى التمر، وهو غير متساو في الرطبين، وإذا لم يحصل متساوياً كان ذلك ربا في التمر.
فروع: أحدها: بيع الحليب بالحليب. والمشهور: جوازه كالرطب بالرطب.
وحكى القاضي أبو الفرج رواية بالمنع. قال بعض المتأخرين: وهو التفات إلى ما يخرج منهما.
الثاني: إن السمن بالسمن والزبد بالزبد والجبن بالجبن، وما يتولد من اللبن كل واحد منها بصنفه جائز.
وأما الجبن بالحليب، وبالجملة كل واحد بغير صنفه، فإنه لا يجوز، لأنه من باب الرطب باليابس. والتماثل على مراعاة المآل معدوم. قال بعض المتأخرين: وينبغي أن يختلف في الزبد بالزبد، لأن بعدهما حالة يبس، وهي السمنية.
هذا حكم ما اتفقت الرطوبة فيه إذا بيع بصنفه، فأما إن اختلفت الرطوبة فإن جواز بيعه يجري على تحري المساواة على كما تقدم في الخبز.
الفرع الثالث:
البلح الكبير.
والمشهور من المذهب إلحاقه بالربويات. ومال الشيخ أبو إسحاق إلى أنه غير ملحق بها، لأنه مما لا يدخر على حالته فأشبه الخضروات.
قال بعض المتأخرين: وقد يجري هذا الخلاف على الخلاف فيما لا يتمر، إلا أن ذلك يلحق بغالبه، وهذا لم يحصل في حد له غالب، ويمكن أن يلحقه في المشهور بالربويات احتياطاً.
قال: وقد يكون في مبدأ البسرية، ولا خلاف في البسر أنه ربوي، وإن لم يمكن ادخاره.
القسم الثاني: أن يكون كماله حالة الرطوبة كالزيتون:
فأما بيع رطبه برطبه فجائز قولاً واحداً، إذ المقصود حاله لا مآله.
وأما بيع رطبه بيابسه على تحري النقص ففيه خلاف ينبني على أن التحري يحيط بحقيقة النقص أم لا؟ وفي سلكه ببيع اللحم باللحم، فإن كانا رطبين فهو جائز وإن كان الرطب أحدهما فعلى ما قلناه.
قال بعض المتأخرين: إلا أن يكون الجاف إنصاف إليه من التوابل ما ألحقه بصنف آخر فسيأتي حكمه.
فرع المشهور جواز بيع الجاف بالجاف، وقال ابن حبيب: لا خير في القديد بالقديد لأن يبسه يختلف، ولا في الشواء بالشواء، لأنه لا يعتدل، ولا بيع أحدهما بالآخر.
قال بعض المتأخرين: وهذا اختلاف في شهادة بالتساوي أو بعدمه، ويختلف هل يجوز تحرياً على ما تقدم.
القسم الثالث: أن تكون الرطوبة طارئة، كالقمح المبلول مثلاً بمثله:
فالمشهور المنع، لأن البلل يختلف.
وقيل بالجواز قياساً على الرطب بالرطب.
الطرف الرابع: معرفة الجنسية.
وقد ثبت في الحديث أن اختلاف الأجناس يبيح التفاضل. فالجنسية مشترطة بلا خلاف، والمعول فيها على تشابه المنافع أو تقاربها، فإن وقع التباين والتباعد انتفى التجانس. وقد انقسمت الربويات بحسب هذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما اتفق على عده جنساً واحداً كأصناف الحنطة وأصناف التمر على اختلافها وأصناف الزبيب، وما أشبه هذه.
وأما اللحمان، فلحم ذوات الأربع جنس واحد، وحشيها وإنسيها، صغيرها وكبيرها.
ولحم ذوات الريش جنس واحد، داجنها وشاردها، صغيرها وكبيرها.
ودواء الماء جنس واحد. والجراد صنف رابع.
قال الإمام أبو عبد الله: والمعروف من المذهب أن بيع بعضه ببعض متفاضلاً جائز.
وهكذا ذكر محمد عن أشهب. قال: وذكر ابن حارث عن سحنون أنه يمنع بعضه ببعض متفاضلاً. وإلى هذا مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر.
وأما الألبان فما يتشابه في وجود الزبد وما يعمل منه جنس وغيره مختلف فيه، يأتي بيان حكمه.
القسم الثاني: ما اتفق على أنه مختلف كالبر والتمر والزبيب والملح والشعير واللحم.
وهذا لا يخفى حكمه، ولا يحتاج إلى التطويل في تمثيله.
القسم الثالث: ما اختلف فيه نصاً أو تخريجاً، وينحصر المقصود منه برسم مسائل.
إحداها: القمح والشعير. والمنصوص في المذهب أنهما صنف ويلحق بهما السلت.
وقال الإمام أبو عبد الله: ولا يختلف المذهب في كون القمح والشعير والسلت صنفاً واحداً.
ورأى أبو القاسم السيوري أن القمح والشعير جنسان. ووافقه على ذلك بعض من تأخر عنه تمسكاً بحديث عبادة بن الصامت. ورأوا أيضاً أن المنفعة متباعدة.
وتمسك أهل المذهب بما روي في الموطأ أن سعد بن أبي وقاص فني علف حماره، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيراً، ولا تأخذ إلا مثله.
وعن عبد الرحمن بن الأسود ومعيقب الدوسي مثله. وروى مسلم عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه، ثم اشتر به شعيراً. فذهب الغلام فأخذ به صاعاً وزيادة بعض صاع. فما جاء معمراً أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده، ولا تأخذ إلا مثل بمثل.
وهذا دليل على أن الأمر كان عندهم فاشياً بأنهما جنس واحد.
وأما حديث عبادة فقال القاضي أبو الوليد: ليس بالثابت. ثم إن صح سنده ففيه وهن الانفراد إذ أكثر الطرق عارية عنه.
وأما ما ذكروه من تباعد المنفعة فنظر منهم إلى الرفاهية الحاصلة بالحنطة، وهي غير مقصودة قصداً شرعياً، إنما المقصود من الصنفين الاقتيات.
وتكلم مالك رحمه الله على عادة أهل الحجاز، لأن الأحكام عليهم أنزلت أولاً، والناس تبع لهم، فيها فينبغي أن يلتفت إلى عوائدهم، ومطلوبهم القوتية من الجميع.
المسألة الثانية:
إذا ثبت أن القمح والشعير صنف واحد، فإن السلت يلحق بهما بلا خلاف منصوص في المذهب. وهل يلحق بهما العلس، وهو الأشقالية، وهو حب إلى الاستطالة مصوف عليه زغب، بين القمح والشعير في الصفة؟
ظاهر المذهب أنه غير ملحق بها، وألحقه في كتاب ابن حبيب بها.
الثالثة: الأرز والذرة والدخن:
والمشهور أنها لا تلحق بالقمح والشعير وما معهما. وألحقها ابن وهب بها.
وسبب الخلاف: النظر إلى التباين في الخلقة والمنفعة أو إلى أن العادة اختيارها للقوت.
فرع:
إذا قلنا: إنها لا تلحق بها فهل تكون جنساً واحداً أو أجناساً؟.
المشهور أنها أجناس. وألزم المتأخرون على مذهب ابن وهب أن تكون جنساً. ونقل القاضي أبو الوليد ذلك عنه من رواية زيد بن بشر.
الرابعة: القطاني:
وقد اختلفت الرواية في عدها جنساً واحداً أو أجناساً، وهو خلاف في شهادة، كما تقدم.
فرع:
إذا لنا: إنها أجناس، فهل ذلك جار في جميعها أو يستثني عن ذلك الحمص واللوبيا فيعدان جنساً واحداً، والبسيلة والجلبان أيضاً كذلك؟
في ذلك خلاف منشؤه التعويل على الشهادة بالتقارب أو التباين، وعلى ذلك أيضاً الاختلاف في الكرسنة، هل هي من القطاني أو هي صنف قائم برأسه؟
الخامسة: التوابل:
إذا قلنا بأنها ربوية، هل هي جنس أو أجناس؟ قولان. والمشهور أنها أجناس. وكذلك اختلف في الأنيسون والشمار وفي الكونين.
فحكى محمد عن ابن القاسم، أن الكمونين جنس، وأن الأنيسون والشمار جنس.
وقال القاضي أبو الوليد: الأظهر عندي أن تكون أجناساً مختلفة لاختلاف منافعها وتباين الأغراض فيها، وأنها لا تتمازج في منبت ولا محصد، ولا يجزي بعضها عن بعض في شيء ولا تتقارب في صورة، وإنما يجمع الكمونين اسم الكمون. قال: وليس بظاهر في الكمون الأسود، لأن اسم الشونيز أظهر فيه وأكثر استعمالاً. وهذا كله راجع إلى الشهادة كما تقدم.
السادسة: أخباز القطاني:
هل هي أصناف مختلفة أو صنف واحد مع تسليم كون أصولها أصنافاً؟ قولان لابن القاسم وأشهب. وهما على الشهادة بالتباين أو التقارب.
تقرير:
نص أشهب على أن أخباز القمح والشعير والسلت والأرز وما ذكر معه صنف، وإن اختلفت الأصول. واختلف المتأخرون في الجاري على رأي ابن القاسم. فجعله أبو الحسن اللخمي وغيره موافقاً لأشهب لتقارب المنفعة في الأخباز. قالوا: وقد كره في العتبية خبز البر بخبز الأرز متفاضلاً. وهذا نص منه على تساوي الأخبار إذا جعلنا الكراهة بمعنى التحريم.
وجعله غيرهم مخالفاً له، واستشهدوا بقوله في أخباز القطاني.
وقال يحيى بن عمر: قال أبو إسحاق البرقي: كل ما أصله مختلف فخبزه أيضاً مختلف تبعاً لأصله. وكل هذا جار على الشهادة كما تكرر تقريره.
السابعة: نبيذ التمر والزبيب: هل هما صنف واحد أو صنفان؟. والمشهور: أنهما صنفان تبعاًَ لأصولهما. وعند الشيخ أبي الفرج: أنهما صنف واحد، وهو شهادة بتقارب المنفعة.
تقريرات:
أحدها: إن المذهب على أن الأمراق واللحوم المطبوخة صنف، ولا يلتفت إلى اختلاف اللحوم، ولا إلى اختلاف ما يطبخ به.
وتعقب هذا بعض المتأخرين ورأى أن الزيرباج مثلاً مخالف للطباهجة مخالفة لا يتمارى فيها. وكذلك ما يعمل من لحم الطير مخالف لما يعمل من لحم المعز مثلاً.
الثاني: أنه قال في كتاب محمد: الهريسة بالأرز المطبوخ لا بأس بها مثلاً بمثل، فاشترط المثلية وجعلها صنفاً واحداً.
قال أصبغ: وهو مثل عجينها يتحرى، ولا يصلح إلا بذلك.
قال بعض المتأخرين: فإن أراد أن الهريسة عملت من الأرز فالذي قاله ظاهر على ما تقدم من الروايات، وإن أراد أنها عملت من القمح فهو بناء على أن المعمول من هذه الحبوب وإن كانت أصنافاً يعد صنفاً واحداً. وقد تقدم الكلام على أخبازها فلتجر على ذلك.
الثالث: أنه قد يصنع من الصنف الواحد ما يدخله صنعة أو معنى، فيختلف كالخبز بالكعك الذي فيه الأبزار، فقد أجازوا التفاضل بينهما. قال بعض المتأخرين: وانظر في هذا مع قولهم: إن الألوان كلها صنف.
ومقتضى هذا أن يجعلوا الكعك والخبز صنفاً واحداً، قال وهذا مما يبين أن مبنى أقوالهم على الشهادات.
الرابع: فيما ينقل من الصنعة والطول.
قال الشيخ أبو الطاهر: وقد اتفق أهل المذهب على أن طحن هذه الحبوب لا يخرجها عن أصولها، وكذلك العجن بعد الطحن. لأن الطحن تفريق أجزاء، والعجن إضافة. ماء فإن خبزت انتقلت فصارت كصنف ثان.
وهكذا جعلوا القلي في الحبوب. قال: وقد غمزه مالك حتى يطحن.
وأجازه ابن القاسم، وإن كان القلي ليس بصنعة كبيرة، لكن قد أعده ذلك لمعنى غير ما يتخذ له اليابس، والضابط أن الصنعة متى كثرت جداً أخرجت عن الأصل، ومتى قلت فهي على وجهين:
أحدهما: أن يصير المصنوع معداً لغير ما أعد له الأصل فينتقل عن الأصل.
والآخر: أن لا يتغير بالصنعة، والمقصود الأول منه كبير تغير، فلا ينتقل عن الأصل.
وحيث اختلف في الشهادة بالتغيير اختلف في حكم النقل. ومن هذا يعلم أن التجفيف في اللحم بنار أو شمس لا يعد ناقلاً، وأن الطبخ أو التجفيف بإبراز يعد ناقلاً، وأن الاتخاذ من الحبوب سويقاً يعد ناقلاً. واختلف المتأخرون في الصلق على قولين: هل يعد ناقلاً أم لا؟.
وعلى قياس ما تقدم ينبغي أن يعد ناقلاً. والتفت من لم يعده ناقلاً إلى خفة الصنعة.
وقال بعض المتأخرين هو في الترمس: ناقل بطول أمده بخلاف الفول. واختلف هل يكون الطول من غير صنعة منع الانتقال عن مقصود الأصل ناقلاً أم لا، وهذا كالخل بالزيت أو العنب أو التمر، والمشهور أنه ناقل. وفي ثمانية أبي زيد: أنه لا يعد ناقلاً، وراعى فيه حكم المزابنة.
ومقتضى ما تقدم عده ناقلاً، لكن نظر في القول الشاذ إلى قلة الصنعة، وأنه ليس فيه إلا تفريق أجزاء، فأشبه الدقيق.